مِـــنْ فضـــائلِ وصُـــوَرِ بِـــرِّ الوالـــديْنِ
إنَّ أعظمَ الناسِ فضلاً على الإنسانِ وَالِدَاهُ؛ ذلك أنَّهما كانا سببًا في وجودِهِ في هذه الدنيا، وأنَّهما قَدَّمَا له خدماتٍ كثيرةً منذ عُلُوقِهِ نطفةً في رحمِ أمِّهِ، إلى أن أصبحَ بشرًا سويًّا يصولُ ويجولُ. ولذا كان لِزَامًا على الولدِ أن يَرُدَّ لولديْهِ شيئًا من الجميلِ الذي قَدَّمَاهُ له، وذلك من خلالِ بِرِّهِمَا. ولو أنَّ الولدَ المسلمَ وُفِّقَ إلى ذلك، فإنَّهُ سيحصِّلُ فضائلَ كثيرةً، نذكُرُ أهمَّهَا فيما يأتي:
1- اكتسابُ الأجرِ والثوابِ؛ لأنَّ بِرَّهُمَا عبادةٌ: يقول الله : ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُـكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[لقمان:14-15].
وعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قال: سألتُ النبيَّ : "أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ؟" قال: ﴿الصلاةُ لوقتِهَا﴾. قلت: ثم أيُّ؟ قال: ﴿بِرُّ الوالديْنِ﴾. قلتُ: "ثم أيُّ؟" قال: ﴿الجهادُ في سبيلِ اللهِ﴾. قال: "حَدَّثَنِي بهنَّ، ولو استزدتُّهُ لَزَادَنِي".[متفق عليه].
2- تفريجُ الكرباتِ: ودليلُ ذلك حــديثُ ثلاثةِ الغارِ الذي رواه عبدُ اللهِ بنُ عمرَ عندما قال سمعتُ رسولَ اللهِ يقولُ: ﴿انطلقَ ثلاثةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كان قبلَكم، حتى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إلى غارٍ فدخلُوا، فانحدرتْ صخرةٌ من الجبلِ فسدَّتْ عليهم الغارَ، فقالُوا: إنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ من هذه الصخرةِ إلاَّ أن تَدْعُوا اللهَ بصالحِ أعمالِكم . فقال رجلٌ منهم: اللهمَّ كان لي أبوانِ شيخَانِ كبيرانِ، وكنتُ لا أَغْبِـــــقُ قبلَهما أهـــلاً ولا مالاً ، فنَأَى بي طلبُ شجرٍ يومًا ، فلم أَرُحْ عليهما حتى نَامَا، فحلبْتُ لهما غَبُوقَهُمَا، فوجدتُّهما نائميْنِ، فكرهْتُ أن أَغْبِقَ قبلَهما أهلاً أو مالاً، فلبثْتُ والقدحُ على يديَّ أنتظرُ استيقاظَهما، حتى بَرَقَ الفجـرُ، فاستيقظَا فشَرِبَا غَبُوقَهُمَا. اللهمَّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِكَ، ففَرِّجْ عَنَّا ما نحن فيه من هذه الصخرةِ، فانفرجتْ شيئًا لا يستطيعُون الخروجَ منها ﴾[رواه الشيخان].
3- تكفيرُ الذنوبِ: يقول الله : ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ﴾[هود:114]. والشاهدُ من هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّ برَّ الوالديْنِ عبادةٌ جليلةٌ، يحصِّلُ المسلمُ من خلالِهَا حسناتٍ كثيرةً، تكونُ كفيلـــةً -بإذنِهِ جلَّ وعلاَ- بمَحْوِ آثارِ صغائرِ ذنوبِهِ.
وعن ابنِ عمرَ أن رجلاً أَتَى النبيَّ فقال: "يا رسولَ اللهِ، إني أصبتُ ذنبًا عظيمًا، فهل لي من توبةٍ؟" قال: ﴿هل لَكَ من أمٍّ؟﴾ قال: "لا". قال: ﴿وهل لَكَ من خالةٍ؟﴾ قال: "نعم". ﴿قال: فبُرَّهَا﴾ [رواه الترمذي].
4- التوسعةُ في الرزقِ، والبركةُ في العمرِ: عن أنسٍ بنِ مالكٍ أنَّ رسولَ اللهِ قال: ﴿مَنْ أحبَّ أن يُبْسَطَ له في رزقِهِ، ويُنْسَأَ له في أَثَرِهِ ، فلْيَصِلْ رَحِمَهُ﴾[رواه الشيخان]. ومعلومٌ أنَّ الأبويْنِ -مع الأولادِ الصِّلْبِيِّينَ- أقربُ أرحامِ الشخصِ إليه، ولذا فهُمَا على رأسِ الأرحامِ التي يجبُ أن تُوصَلَ، وبِصِلَتِهِمَا يحصلُ الفضلُ الواردُ في الحديثِ.
5- قبولُ الأعمالِ الصالحةِ : يقول الله : ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾[الأحقاف:15-16].
6- استجابةُ الدعوةِ: عن عمرَ بنِ الخطابِ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ يقولُ: ﴿إنَّ خيرَ التابعين رجلٌ يُقَالُ له أُوَيْسٌ ، وله والدةٌ هو بها بَرٌّ، لو أَقْسَمَ على اللهِ لَأَبَرَّهُ، وكان به بياضٌ ، فمُرُوهُ فلْيَسْتَغْفِرُ لكم﴾[رواه مسلم]. فهذا العبدُ الصالحُ ما جعلَهُ المولَى مستجابَ الدعوةِ، إلا بسببِ بِرِّهِ بوالدتِهِ.
7- الظفرُ ببِرِّ الأولادِ: جاء في الأثرِ: "اعملْ ما شِئْتَ، كما تَدِينُ تُدَانُ "، وهذا يعني أن الذي يريدُ أن يَظْفَرَ ببِرِّ أولادِهِ وطاعتِهم له، عليه أن يُبَادِرَ هو إلى البِرِّ بوالديْهِ. أما إذا عَقَّـهُمَا وأساءَ إليهما -لا قَدَّرَ اللهُ-، فعليه أن ينتظرَ من أولادِهِ مستقبلاً الصنيعَ نفسَهُ.
وزوجةُ الابنِ مطالبةٌ ببِرِّ والديْ زوجِهَا؛ إعانةً لزوجِهَا على بِرِّهِـــــمَا -وهذا من حُسْنِ عشرتِهَا له-، وكذا حتى تَحْظَى ببِرِّ زوجةِ ابنِهَا مستقبلاً. أُذَكِّرُ بهذا؛ لأنَّ عددًا مُعْتَبَرًا من زوجاتِ الأبناءِ في هذا الزمانِ -إلا مَنْ رَحِمَ ربِّي- لا تُعْنَى ببِرِّ والديْ زوجِها، بل بعضُهن يُسِئْنَ إليهما، وربُّما حَرَّضْنَ الابنَ عليهما. فلْيَتَّقِ اللهَ هذا الصنفُ من النساءِ في آبائِهن، ولْيَسْتَعِنَّ على شياطينِهِنَّ بتذكيرِ أنفسِهن بأنَّ الجزاءَ في الدنيا -قبل الآخرةِ- من جنسِ العملِ.
8- الذِّكْرُ الْحَسَنُ في الدنيا: فمَنْ أرادَ أن يَذْكُرَهُ الناسُ بخيرٍ في حياتٍهِ وبعدَ مماتِهِ، فلْيُبَادِرْ إلى بِرِّ الوالديْن؛ ذلك أنَّ أصحابَ الْفِطَرِ النقيَّةِ، والأذواقِ السليمةِ، من عادتِهم أن يَمْتَدِحُوا مَنْ كان بَارًّا بوالديْهِ.
بل إنَّنَا نجدُ القرآنَ الكريمَ نفسَهُ، لَمَّا أرادَ أن يُخَلِّدَ ذِكْرِ يحيى ، ذَكَرَ له أوصافًا مِنْ بينِهَا بِرُّهُ بوالديْهِ. قال الله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً﴾[مريم:12-15].
9- دخولُ الجنةِ في الآخرةِ: رُوِيَ عن معاويةَ بنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ أنَّهُ قال: أتيتُ رسولَ اللهِ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أردتُّ الجهادَ معك؛ أبتغي بذلك وجهَ اللهِ والدارَ الآخرةَ. قالَ: ﴿وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟!﴾. قلتُ: نعم. قال: ﴿ارْجِعْ فَبُرَّهَا﴾. ثم أتيتُهُ من الجانبِ الآخَرِ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أردتُّ الجهادَ معك؛ أبتغي بذلك وجهَ اللهِ والدارَ الآخرةَ. قال: ﴿وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟!﴾. قلتُ: نعم يا رسولَ اللهِ. قال: ﴿فَارْجِعْ إليها فَبُرَّهَا﴾. ثم أتيتُهُ من أمامِهِ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أردتُّ الجهادَ معك؛ أبتغي بذلك وجهَ اللهِ والدارَ الآخرةَ. قال: ﴿وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟!﴾. قلتُ: نعم يا رسولَ اللهِ. قال: ﴿وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا ؛ فَثَمَّ الجنةُ﴾[رواه ابن ماجة].
هذه أهمُّ الفضائلِ التي يُمْكِنُ أن يحصِّلَهَا مَنْ أكرمَهُ اللهُ ببِرِّ والديْهِ. وحتى نكونَ عَمَلِيِّينَ، ينبغي أن نعرفَ في هذا المقامِ صورَ البرِّ بهما؛ حتى نُجَسِّدَهَا في علاقتِنَا مع وَالِدِينَا. فمِنْ بين صورِ البرِّ:
1- النفقةُ عليهما إنْ كَانَا محتاجيْنِ: اتفقَ الفقهاءُ على أنَّ نفقةَ الولدِ على والديْهِ واجبةٌ إذا كَانَا فقيريْنِ، أمَّا إذا أَغْنَاهُمَا اللهُ عنه بمالٍ آخَرَ، فلا تجبُ عليه، إلاَّ أن يتطوَّعَ بها.
2- الهديةُ لهما وخاصةً في المناسباتِ: إذا كانت الهديةُ مستحبةً في حقِّ سائرِ الناسِ، فهي تتأكَّدُ في حقِّ الوالديْنِ؛ إذ إنَّ الأقربين أَوْلَى بالمعروفِ.
3- التصدقُ عليهما بعدَ وفاتِهما: سألَ سعدٌ بنُ عُبَادَةَ فقال: "يا رسولَ اللهِ، إنَّ أمِّي مَاتَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عنها". قال: ﴿نَعَمْ﴾. قلتُ: "فأيُّ الصدقةِ أفضلُ؟" قال: ﴿سَقْيُ الماءِ﴾[رواه النسائي].
4- إعانتُهما على إقامةِ الشعائرِ الدينيةِ: وذلك كأداءِ الحجِّ والعمرةِ والأضحيةِ. رَوَى البخاريُّ في الأدبِ المفردِ أنَّ رجلاً يَمَانِيًّا كان يطوفُ بالبيتِ، وقد حَمَلَ أمَّهُ وراءَ ظهرِهِ، فرأى ابنَ عمرَ فسألَهُ قائلاً: "أَتُرَانِي جَزَيْتُهَا؟" قال: "لاَ، ولا بزَفْرَةٍ واحدةٍ ".
5- التواصلُ معهما بالزيارةِ أو الرسالةِ أو الهاتفِ: فكما أنَّ الآباءَ يريدُون من ابنِهم برًّا ماديًّا، فإنَّهم يريدُون منه أيضًا برًّا معنويًّا؛ ذلك أنَّهم يَأْنَسُونَ كثيرًا، بل يَسْعَدُونَ سعادةً غامرةً عندما يكونُ ابنُهم بين أيدِيهم جالسًا معهم، أو على الأقلِّ يُطَمْئِنُهُمَ برسالتِهِ أو صوتِهِ. وبالعكس، فإنَّهُ يَشُقُّ عليهم غيابُهُ، أو انقطاعُ أخبارِهِ.
6- الكلامُ معهم بلطفٍ ولِينٍ: وهذا ما أَوْصَى به القرآنُ الكريمُ عندما قال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾[الإسراء:23-24].
7- الابتسامةُ في وجهِهما: قال رسولُ اللهِ : ﴿كلُّ معروفٍ صدقةٌ، وإنَّ من المعروفِ أن تَلْقَى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ، وأن تُفْرِغَ من دَلْوِكَ في إناءِ أخيك﴾[رواه أحمد والترمذي]. فإذا كان المسلمُ يُؤْجَرُ على الابتسامةِ في وجهِ أخيه المسلمِ الذي لا تَجْمَعُهُ به إلا رابطةُ الدينِ، فإنَّ أجرَهُ يَعْظُمُ إذا كانت هذه الابتسامةُ في وجهِ أقربِ الناسِ إليه وهما وَالِدَاهُ الكريمانِ .
8- القيامُ بتمريضِهما: وقد ضربَ بعضٌ من الأولادِ الطيِّبين في هذا الزمانِ المثلَ الأعلى في تمريضِ أحدِ أبويْهم أو كليْهما؛ حيث تجدُهُ يجاهِدُ فيهما يوميًّا، ولا يدخرُ أيَّ جهدٍ أو مالٍ في سبيل جلبِ الشفاءِ لَهُمَا: من طبيبٍ إلى آخرَ، ومن بلدٍ إلى آخرَ، ومن نفقةٍ إلى أخرى، ومن سنةٍ إلى أخرى. وربَّما ألجأَهُ ذلك إلى التوقفِ عن عملِهِ لأجلِ أن يكونَ إلى جانبِهما في المستشفى، أو إلى الاستدانةِ من أجلِ توفيرِ ما يحتاجانِهِ في ذلك الظرفِ العصيبِ .
9- الدعاءُ لهما، سواء كَانَا حَيَّيْنِ أو مَيِّتَيْنِ: قال رسولُ اللهِ : ﴿إذا ماتَ ابنُ آدَمَ انقطعَ عملُهُ إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنْتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يَدْعُو له﴾[رواه مسلم].
10- صلةُ وإكرامُ أقاربِهما وأصدقائِهما: وهذا ما قرَّرَهُ حديثُ أبي أُسَيْدٍ مالكٍ بنِ ربيعةَ الساعديِّ عندما قال: بينا نحن جلوسٌ عند رسولِ اللهِ ، إذ جاء رجلٌ من بني سلمةَ فقال: "يا رسولَ اللهِ، هل بَقِيَ من بِرِّ أَبَوَيَّ شيءٌ أَبُرُّهُمَا به بعد موتِهما؟" قال: ﴿نعمْ؛ الصلاةُ عليهما ، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدِهما من بعدِهما، وصلةُ الرحمِ التي لا تُوصَلُ إلاَّ بهما، وإكرامُ صديقِهما﴾[رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه ].
وفي خاتمةِ هذا الموضوعِ، أريدُ أن أُنَبِّهَ إلى أمريْنِ مُهِمَّيْنِ:
أولُهما: أنَّ الأمَّ أحقُّ بالبرِّ من الأبِ؛ نظرًا لضعفِهَا النفسيِّ والجسديِّ كأنثى، إضافةً إلى أنَّ عطاءاتِها للابنِ -في الأغلبِ- أكثرُ من عطاءاتِ الأبِ له.
ولذا وجدْنا القرآنَ الكريمَ يُؤَكِّدُ على حقِّها، يقول الله : ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾[لقمان:14]. ويقول أيضًا: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾[الأحقاف:15].
كما أنَّ النبيَّ جعلَ لها ثلاثةَ أرباعِ البرِّ، فعن أبي هريرةَ قال: قال رجلٌ: "يا رسولَ اللهِ، مَنْ أحقُّ بحُسْنِ صحابتي؟" قال: ﴿أُمُّكَ﴾. قال: "ثم مَنْ؟" قال: ﴿أُمُّكَ﴾. قال: "ثم مَنْ؟" قال: ﴿أُمُّكَ﴾. قال: "ثم مَنْ؟" قال: ﴿أَبُوكَ﴾.[متفق عليه].
ثانيهما: إذا تقرَّرَ أنَّ برَّ الوالديْنِ واجبٌ شرعيٌّ، وأنَّهُ من أعظمِ القرباتِ التي يتقرَّبُ بها المسلمُ من ربِّهِ، فإنَّهُ ينبغي أن يُعْرَفَ أيضًا أن عقوقَهما والتفريطَ في حقِّهما يُعَدُّ من أكبرِ الكبائرِ التي يُمْكِنُ أن يَقْتَرِفَهَا المسلمُ؛ بدليلِ حديثِ أبي بَكْرَةَ عندما قال: "كُنَّا عند رسولِ اللهِ فقال: ﴿ألاَ أنبِّئكم بأكبرِ الكبائرِ؟ -ثلاثًا-﴾. قلْنا: "بلى يا رسولَ اللهِ". قال: ﴿الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالديْنِ﴾. وكان مُتَّكِئًا فجلسَ فقال: ﴿ألاَ وقولَ الزورِ، وشهادةَ الزورِ﴾. فما زالَ يكرِّرُهَا، حتى قلْنا: لَيْتَهُ سكتَ".[متفق عليه] .
نسألُكَ اللهمَّ أن تجعلَنَا من البارِّينَ بآبائِهم وأمهاتِهم، وأن ترزقَنَا بِرَّ أبنائِنَا وبناتِنَا، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ رِضَاكَ والجنةَ، ونعوذُ بك من سخطِكَ ومن النارِ، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ صلاةً وتسليمًا دائميْنِ متلازميْنِ على خيرِ البريَّةِ محمدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، والحمدُ لله الذي بنعمتِهِ تَتِمُّ الصالحاتُ.