هذه الخصائص التي يتميز بها المصطلح الحازمي، تجعلنا نركز كثيرا على ضبطه جيدا، واعتبار ذلك المدخل الذي لا غنى عنه من أجل الغوص في أعماق الخطاب النقدي وإدراك أسراره.
ويتأكد هذا العمل بالنظر الى خصوصية التلقي نفسه، وهو موضوع متصل بالفهم الجيد الذي من شأن غيابه أو انعدامه التشويش على عملية التلقي والإخفاق في التواصل.
بناء على هذا الحكم «كانت الحاجة ماسة الى ضبط المصطلح النقدي في ذلك الموروث، وتحديد مدلوله تحديدا دقيقا يقوم على استقراء النصوص والتفهم الواعي لأنماط السياق وطبيعة المواقف التي يتردد فيها، فهذا التحديد يمثل الخطوة الأولى في دراسة النقد: (19).
كما أن نقد حازم الغني بالمصطلحات يتيح امكانية خصبة لدراستها، تقول الدكتورة الوهيبي:«أما مهمة الابتكار عند حازم فتتمثل في طريقة تشغيله للمصطلحات مجتمعة متناغمة، أي تكمن في اعطاء المصطلح حيويته الوظيفية لا لينصب كمصطلح منفردا، بل ليشكل مع مجموعته أو منظومته من المصطلحات آليات فاعلة في انتاج نظريته النقدية» (20).
وليس يهمنا في منهاج البلغاء وسراج الأدباء رصد مصطلحاته وألفاظه كلها، لأن ذلك لا يخدم الموضوع الذي سيركز على التلقي عند حازم القرطاجني.
وبناء عليه، فلن احتفل في هذه الدراسة باللفظ والمصطلح عند حازم القرطاجني إلا إذا كان دالا على التلقي ومنتميا اليه.
والانطلاق من دراسة ألفاظ الخطاب النقدي ومصطلحاته عند حازم، مسعف لا محالة في كشف ظلال التلقي في ذلك الخطاب، حيث إن اللغة هي وسيلة النقاد والشعراء المثلى للتعبير عن أغراضهم، وهذا ما فطن له عدد من الباحثين، يقول الباحث شكري المبخوت: «إن دراسة دقيقة للمصطلح الخاص بأثر الكلام في النفس تساعد لا محالة على فهم المظهر الجمالي من المتقبل.. نذكر على سبيل التمثيل.. مصطلحات من قبيل السرور والطربة والبهجة والاريحة والاستظراف والارتياح والمسرة والتعجب والروعة والشغف والروح والإيناس، والبهجة، كما نجد عند حازم القرطاجني في هذا الباب الإيناس والاستجمام والاستلذاذ والتأنيس والابتهاج» (21).
وإذا كانت الفاظ التلقي ومصطلحاته غزيرة في منهاج البلغاء، فإنها مع ذلك تتميز بعدة خصائص، مثل التنوع والتفاوت والكثرة والقلة.
فبعض تلك الألفاظ والمصطلحات هيمن على المصنف وتكرر وروده بشكل لافت للنظر، ينم عن اصرار الناقد على الاكثار منه لصلاته الوثيقة بالتلقي، وبعضها الآخر، وإن قل وروده أو تراوح بين الكثرة والقلة، فإن مجيئه على تلك الصيغة لم يخل من دلالات التلقي، لا سيما عند اقترانه بسياقات خاصة، اكسبته قوة الانتساب الى موضوع البحث.
كما أن بعض تلك الألفاظ والمصطلحات يدل صراحة على التلقي باستعمال مادة لقي ومشتقاتها، وبالانتقال من المجرد نحو المزيد، وما يترتب عن ذلك من تعد في المعاني، وتوسيع في الدلالات.
ومن هذه المادة ذات الأصل الثلاثي نجد حازما القرطاجني يتحدث عن الإلقاء والتلقي بصيغة المفرد والجمع.
وفي أحيان أخرى نرى حازما ينتقل من استعمال اللفظ أو المصطلح الى توظيف مرادفه، أو أحد معانيه الاصطلاحية المأخوذة من المعنى اللغوي.
وفي مناسبات أخرى يجنح الناقد الى استعمال ألفاظ ومصطلحات هي مظاهر للتلقي أو نتيجة من نتائجه.
وعموما يكشف قارئ نقد حازم في المنهاج، ان الرجل قد ركز على أثر الكلام أو القول في المتلقي، وجعل النفس هي المستقبل الأول لهذا الأثر، والمعبرة عن هذا الانفعال والحركة. لقد اعتبر حازم القرطاجني الكلام الجيد صادرا من نفس المبدع مرسلا لنفس المتلقي، من أجل خدمة غرض أساسي، ألا وهو إحداث الأثر في تلك النفس، ودفعها للتفاعل مع مضمون ذلك الكلام/القول والانقياد لمقتضاه.
من هنا ألفينا لفظ النفس ينتشر بشكل لافت في المنهاج، ويغطي على سائر الألفاظ والمصطلحات الأخرى.
ولا يخفى ما لهذا اللفظ من قوة انتساب لحقل التلقي، وهذا ما لا حظه بعض الدارسين المحدثين، يقول الدكتور محمد المبارك: «ألفاظ مثل النفس، التي تتردد في كتابات النقاد ذات صلة واضحة بالتلقي.. ويوحي هذا اللفظ بدلالات كثيرة ربما كانت سببا في الإلحاح عليه في مصنفاتهم، إذ أن النفس تشير الى الإنسان ومشاعره الداخلية وأعماقه» (22).
إن لفظ النفس لا ينتشر في المنهاج بكثافة وحسب، بل انه يدخل في سائر ألفاظ التلقي ومصطلحاته التي أحصيناها في علاقات قوية، حيث يختبر دلالة اللفظ والمصطلح على التلقي من خلال صدوره عن النفس أو مدى تأثيره فيها، وإجمالا لا يحظى اللفظ أو المصطلح بالانتماء الى الحقل الدلالي للتلقي، إلا اذا كان من النفس أو متوهجا نحوها، أو مرتبطا مع قواها بسبب.
وقد عزز احصاء ألفاظ التلقي ومصطلحاته في المنهاج هذا الرأي، فألفاظ ومصطلحات مثل، الأثر، الألم، الإلف، البسط، الإبداع، البلاغة، الحسن، التخييل، التحريك، المحاكاة، الارتياح، الإذعان، التزين، السرور، الطبع، القبض، القبح، العذوبة، التعجيب، الافتتان، الفصاحة، الميل، الاكتراث، الكراهية، اللطافة، الهزة.. الخ» (23). كما نرى، لا يمكن أن تكون إلا أفعالا للنفس، وأوصافا لها، أو ردودا منها عند التلقي، فالأثر مثلا، شيء في النفس والتحريك فعل يشملها، والميل كذلك من ردود فعلها، وقس على ذلك ما سرد أعلاه من سلوكات تنتاب هذه النفس زمن استقبالها الكلام الجيد والقول الجميل.
بناء على ما سلف، وجب الانطلاق من تلك المصطلحات المفاتيح، والألفاظ الغزيرة الورود، المنتمية فعلا لحقل التلقي انتماء قويا، لا لبس فيه ولا شك يرقى اليه، و«قد اعتبر مصطلحا كل لفظ يتبين من قرائن استعماله أنه أتى به في المجال اللغوي العام ليعبر به عن معنى ما في مجال لغوي خاص» (24)، وأي مجال لغوي؟ إنه مجال الدراسة الأدبية حسب واقعها في منهاج البلغاء وسراج الأدباء، لكن لماذا ألفاظ التلقي ومصطلحاته؟
إن دارس مصطلحات حازم القرطاجني، سيلاحظ ولا شك أنها تتفرد بطبيعة خاصة، لأنها تجمع بين ثناياها مصطلحات تامة الاصطلاحية، ومصطلحات أخرى مرشحة للاصطلاحية التامة، وأن هناك ألفاظا يمتنع سلكها مع المصطلحات.
وهذا ما انتبه له أحد الباحثين تصدى لاحصاء مصطلحات المنهاج ودراستها بقوله: «يمكن القول بأن طبيعة المصطلحات في المنهاج تنحو الى الانشعاب في المناحي التالية.. مصطلحات تامة الاصطلاحية وهي كثيرة، وقد أدرك حازم اهميتها، فاعتنى بها عناية زائدة.. ومصطلحات مرشحة للاصطلاحية التامة وهي بعض الألفاظ التي استعملها حازم في منهاجه وكان يطبعها التجديد أو الإضافة، ثم تطورت واتسعت دائرتها على يد العلماء اللاحقين. (25).
من هنا يفضل تسميتها: «ألفاظ التلقي ومصطلحاته في المنهاج» حتى لا أجعل من لفظ ما، مصطلحا دون أن تتوافر له المؤهلات الضرورية لذلك.
وإذا جرت العادة في نظير هذه الأعمال، احصاء المصطلحات بترتيبها «كلها ترتيبا هجائيا حسب أوائل فثواني فثوالث الأصول» (26). فالمنهاج يستجيب للمنهج ذاته، مع اصرار على جعل معجم التلقي المنجز، يتوقف عند مادة «لقي» ومادة «نفس» وهما حجر زاوية هذا البحث، وعماده، حيث ينطلق منهما موضوع البحث، ويقف عندهما، وان هو نظر أو رصد غيرهما من الألفاظ أو المصطلحات فلأجل شرحهما والتوسع في دلالاتها وسبر أغوارها. إن مدار البحث في الموضوع هو التلقي، ولا يتمظهر هذا التلقي، إلا في حركة النفس وانفعالها وحركيتها، فهي في البدء مصدره وعلته ونتيجته ومآل الكلام أو القول في نهاية تلقيه عائد اليها.
فمادة ـ لقي ـ ومشتقاتها أولى بالاهتمام من غيرها، لأن فهم معانيها وحصر دلالاتها اللغوية والاصطلاحية كفيل بإزاحة النقاب عن حقيقة التلقي وماهيته، وتمهيد لما يأتي بعدها من ألفاظ ومصطلحات.
ولما كانت النفس تالية للتلقي معبرة عنه، جنح البحث لاستكناه معانيها ابتداء من تحديدها لغويا واصطلاحيا.
إن بحث التلقي ينطلق من هاتين الكلمتين ويركز عليهما، نظرا لكونهما مفتاحين يستعان بهما لفك معضلات الخطاب الحازمي ودراسة أشكال التلقي ومظاهره وآثاره، فإذا تم له ذلك، غدا بوسعه ملامسة كنه هذا الخطاب النقدي وفقه أسراره.
الإحالات:
1 ـ منهاج البلغاء، 26.
2 ـ تاريخ النقد الأدبي عند العرب للدكتور إحسان عباس، 562، دار الثقافة، بيروت، ط: 4/1992.
3 ـ مناهج النقد الأدبي في الأندلس بين النظرية والتطبيق خلال القرنين السابع والثامن، 386.
4 ـ المنهاج، 252.
5 ـ المنهاج، 48.
6 ـ نفسه، 256.
7 ـ نفسه، 25.
8 ـ نفسه، 15.
9 ـ نفسه، 152.
10 ـ نفسه، 364.
11 ـ مدخل المنهاج لمحمد الحبيب بن الخوجة، 114.
12 ـ دلالة الألفاظ للدكتور إبراهيم أنيس، 9 ـ 10، مكتبة الأنجلو المصرية، ط.2/1963.
13 ـ مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، للدكتور الشاهد البوشيخي، 13، دار الآفاق الجيدة، بيروت، ط.1/1402هـ ـ 1982م.
14 ـ تقرير عن رسالة «مناهج النقد الأدبي في الأندلس» للدكتور علي لغزيوي، 135.
15 ـ مناهج النقد الأدبي في الأندلس بين النظرية والتطبيق، 388.
16 ـ مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبيين، 16.
17 ـ الأسلوب، د. سعد مصلوح، 30، عالم الكتب القاهرة، ط. 3/1992.
18 ـ المعنى الشعري في التراث النقدي، د. حسن طبل، 3، دار الفكر العربي، ط3/1998.
19 ـ نظرية المعنى عند حازم القرطاجني، للدكتورة فاطمة عبد الله الوهيبي 259، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط. 1/2003.
20 ـ المعنى الشعري، 3.
21 ـ نظرية المعنى، 259.
22 ـ جمالية الألفة، 40.
23 ـ استقبال النص عند العرب، 33.
24 ـ انظر المنهاج، 19، 11، 23، 24، 26، 25، 39، 31، 30، 28، 41، 42، 61، 85، 86، 90، 118.
25 ـ مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبيين، 16.
26 ـ المصطلحات النقدية في كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء لأبي الحسن حازم القرطاجني، لأحمد الادريسي، 25، 26، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، كلية الآداب، ظهر المهراز، فاس، 91/1992.
* أستاذ باحث في اللغة العربية