بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم
ما يجب على الأدباء من الفحص والطلب
إعلم أن أول ما يجب على العاقل المنفصل بصفته عن الجاهل
أن يتبعه ويميل إليه ويستعمله ،ويحرص عليه، مجالسة الرجال
ذوي الألباب، والنظر في أفانين الآداب، وقراءة الكتب والآثار،
ورواية الأخبار والأشعار، وأن يحسن في السؤال، ويتثبت في المقال،
ولا يكثر الكلام والخطاب، إن سئل عما يعلمه أجاب،
وإن لم يسأل صمت للاستماع، ولم يتعرض لمكروه الانقطاع.
فقد قيل:
أغدُ عالما، أو متعلما، أو مستمعا، ولا تكن الرابع فتهلك.
وقيل:طول اللسان أهلك الإنسان.
وقيل في البر:
البر ثلاثة :المنطق و النظر و الصمت
فمن كان منطقه في غير ذكر فقد لغا
ومن كان نظره في غير إعتبار فقد سها
ومن كان صمته في غير فكر فقد لها.
والصمت أحسن بالرجل من الهذر في منطقه، والكلام فيما لا يعنيه،
والتسرع إلى ما يكون على وجل منه.
قال بعض الشعراء:
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرجل تبرا على مهل
وقال أبو العتاهية:
إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزا ... فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز
يخوض أناس في المقال ليوجزوا ... وللصمت عن بعض المقالات أوجز
وقال أيضا:
قد أفلح الساكت الصموت ... كلام راعي الكلام قوت
ما كل نطق له جواب ... جواب ما تكره السكوت
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم :
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر،فليقل خيرا أو ليصمت.
وقال الشافعي في فضل السكــوت :
وجدت سكوتي متجرا فلزمته ..... إذا لم أجد ربحا فلست بخاسر
وما الصمت إلا في الرجال متاجر ..... وتاجره يعلو على كل تاجر
وكان أعرابي يجالس الشعبي يطيل الصمت،
فقال له يوما: لم لا تتكلم؟
فقال: أسمع لأعلم وأسكت فأسلم.
وقال أبو هريرة:
ثمرة القلب اللسان.
وقيل لعيسى بن مريم،عليه السلام:
ما مبدى علم القلب وجهله؟ قال: اللسان. قال: فأين يلزم الصمت؟
قال: عند من هو أعلم منكم، وعند الجاهل إذا جالسكم.
وقال بعض الشعراء:
تعاهد لسانك إن اللسا ... ن سريع إلى المرء في قتله
وهذا اللسان بريد الفؤا ... د يدل الرجال على عقله
وقال آخر:
أستر النفس ما استطعت بصمت، ... إن في الصمت راحة للصموت
واجعل الصمت إن عييت جوابا ... رب قولٍ جوابه في السكوت
وقال أبو العتاهية:
لا خير في حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عيوبه
والصمت أجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه
وقال لقمان لابنه:
يا بني إن غلبت على الكلام، فلا تغلب على الصمت،
فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول،
إني ندمت على الكلام مرارا ولم أند م على الصمت مرة واحدة.
وقال إبراهيم بن المهدي في هذا المعنى فأحسن:
إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأخيارا
ولئن ندمت على سكوتك مرة ... فلقد ندمت على الكلام مرارا
إن السكوت سلامة ولربما ... زرع الكلام عداوة وضرارا
فحقيق على الأديب أن يخزن لسانه عن نطقه،
ولا يرسله في غير حقه، وأن ينطق بعلم، وينصت بحلم،
ولا يعجل في الجواب، ولا يهجم على الخطاب.
وإن رأى أحدا هو أعلم منه، نصت لاستماع الفائدة عنه،
وتحذر من الزلل والسقط، وتحفظ من العيوب والغلط،
ولم يتكلم فيما لا يعلم، ولم يناظر فيما لا يفهم، فإنه ربما
أخرجه ذلك إلى الانقطاع والاضطراب، وكان فيه نقصه
عند ذوي الألباب.
وقد قال الأعور الشني فأجاد:
ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ومثله قول الأخطل أيضا:
إن الكلام من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب :
كان بكر بن عبد الله المزني يقل الكلام، فقيل له في ذلك،
فقال: لساني سبع، إن تركته أكلني، وأنشد:
لسان الفتى سبع عليه شذاته ... فإلا يزع من غربه فهو آكله
وما العي إلا منطق متبرع ... سواء عليه حق أمر وباطله
(شذاته، أي حده)، وقال بعض الحكماء:
ألزم الصمت تعد حكيما كنت أم عليما؛
وقال الهيثم بن الأسود النخعي:
من يستعن بالصمت يوما فإنه ... يقال له لب نهاه أصيل
وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة، على عوراته، لدليل
وكان يقال: الصمت صون اللسان وستر العي.
أنشد أحمد بن يحيى ثعلب للخطفى بن بدر:
عجبت لإزراء العيي بنفسه، ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي، وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما
والعرب تقول: عيٌ صامت خير من عيٌ ناطق.
وكان ربيعة الرأي كثير الكلام، فتكلم يوما، وأكثر ثم قال لأعرابي عنده:
أتعرف ما العي؟ قال: نعم، ما أنت فيه منذ اليوم.
ويتعب اللسان عند الكلام الطويل ، ويستريح عند الامساك .
وقال أكثم بن صيفي: حتف الرجل بين لحييه؛
وأنشد أحمد بن عبيد لأبي محمد اليزيدي:
حتف امرئ لسانه ... في جده، أو لعبه
بين اللها مقتله، ... ركب في مركبه
ورب ذي مزح أمي ... تت نفسه في سببه
ليس الفتى كل الفتى ... إلا الفتى في أدبه
وبعض أخلاق الفتى ... أولى به من نسبه
قال بعض الحكماء:إنما تعرف توبة الرجل في أربعة أشياء:
*أحدها:أن يمسك لسانه من الفضول والغيبة والكذب.
*الثاني:أن لا يرى لأحد في قلبه حسداً ولا عداوة.
*الثالث :أن يفارق أصحاب السوء.
*الرابع :أن يكون مستعداً للموت نادماً مستغفراً لما سلف
من ذنوبه مجتهداً على طاعة ربه.
*اللهم إني أحببت فيك إناسا قلوبهم ذهب وأخلاقهم أدب
يغلقون أبواب العتب ولا يقصرون عن أحبتهم فيما وجب
اللهم هبهم من لدنك أوسع الرحمات وإجمعنا بهم في جنتك
بأعلى الدرجات وبلغهم رمضان وهم بأعلا همه كالجبال الراسيات.